14 - 05 - 2025

مؤشرات | رحمة الله على أمهاتي

مؤشرات | رحمة الله على أمهاتي

أعتقد أنني لست وحدي من الذين وجدوا أنفسهم لهم أكثر من أم في الحياة، بين أم ولدت وربت وجدة احتضنت وشاركت في التربية، وعمات وخالات كن أمهات أخريات، وزوجات أشقاء كبار، وجدنا أنفسنا أطفالا بينهن وكادت أعمارنا وأعمار أبناء الأخوة تقترب من بعضها، فصارت الأمومة تسير في البيوت بين الجميع.

هذا ما عشته على مدار حياتي، بين بيوت العائلة، وربما غيري كثيرون، وقد أكون محظوظا أنني وجدت العديد من الأمهات التي رافقنني في حياتي، وأحزنني كثيرا فقدانهم بعد استرداد الله أماناته التي أودعها في نفوس خلقه، ومن أمهاتي التي تعاملوا معي جميعا مثل الأم التي حملت وربت، حتما هناك فروق بينهن في معاملتي، ولكن المؤكد أنهن كن يعاملنني بمنطق الأمومة، لاقتراب السن بيني وبين أبنائهن.

ذات مرة وأنا طالب في الجامعة في سبعينيات القرن الماضي، وكنت أعيش في معية أخي الأكبر وزوجته وأولاده، وهي واحدة من أمهاتي في سنين العمر، ففي حوار مع والدتي، التي ولدتي وأرضعتني، وربتني في سنواتي الأولى برفقة أمي الثانية، زوجة جدي، ومن باب الإطمئنان سألتي والدتي .. كيف تُعاملك زوجة أخيك يا محمود .. بحسن نية قلت لها .. لا تفرق بيني وبيني أخيها وكل أخواتها الذين كانوا يترددون على البيت الكبير، ... فردت أمي قائلة .. بل قل تُعاملك مثل إبنها ... فهناك فرق بين معاملة الأخ ومعاملة الإبن، .. ساعتها أدركت معنى الأمومة.

ولدت فوجدت لي بدل الأم إثنتين، الحاجة فاطمة العزب تلك الزوجة التي ربت8 أبناء ترتيبي السادس بينهم، قبل أن ترحل صغيرتنا صفاء وهي طفلة صغيرة، وظلت تكافح مع والدي الذي كان يعيش طيلة حياته بعين واحدة، ظل يكافح بها القراءة والكتابة، حتى كاد يذهب ضوؤها في آخر سنوات عمره، رأيت معنى التعب والشقاء على جسد أمي، لتواصل رحلة "شيل الحمل" مع الوالد، الذي كان ليس مسؤولا فقط عن أولاده، بل بعض أخواته من البنات، وزوجات والده الذي هو جدي، فرحمك الله يا أمي.

وكانت هناك الأم الثانية، الحاجة تفيده جوهر، هذه السيدة التي تزوجت جدي محمد الحضري، وهو في سن متقدم، لأجد نفسي في أحضانها تربيني، بعدما حُرمت من الإنجاب، فكنت أنا من بين إخوتي من اعتبرته ابنها، الذي لم تلده، كان قلبي حائرا بينها وبين أمي الحاجة فاطمة، كنت أشعر بالغيرة فيمن هم حولي من عطفها علىَّ .. لدرجة أنهم أطلقوا علىّ "ابن الحاجة تفيدة"، والغيرة كانت من هذا الحنان الزائد، والذي لم تبخل به علىَّ ماديا، فأتذكر وأنا ما زلت طفلا، مرضت مرضا عضال، فإذا بها تقنع والدي بأن تبيع شيئا ممما تملك، لأدخل في رحلة علاج عند دكتور أتذكره حتى الآن اسمه "رمسيس.. " في ميدان القنطره في مدينة السنبلاوين بالدقهلية.

حنان أمي الحاجة تفيدة جوهر لم يتوقف، حتى خلال فترة إصابتها بمرض أقعدها، وكان بداية رحلة الرحيل إلى رب العالمين، حيث كنت أتابع وهي تكتب جزءًا من ثروتها "البسيطة" بإسمي، وتقول لي "يا محمود لا أعرف آ ماذا تحمل الدنيا .. ما كتبته لك قد ينفعك في يوم من الأيام" .. وهذا ما جرى بالفعل وصدقت توقعاتها .. فوصيتها لي كانت العون في زواجي.. رحمة الله عليك يا أمي.. 

لم تتوقف أمهاتي عند الحاجة فاطمة والحاجة تفيدة، حيث وجدت نفسي وأنا في سن الخامسة رفيق أخي وزوجته، في بداية زواجهما، لأجد أمًا ثالثة، هي الحاجة سنية جبر، تعاملني في هذا السن كإبن صغير، وإن ابتعدت عنها لسنوات، إلا أن عدت إلى بيتها مرة أخرى في سن الجامعة وما بعدها، لتعاملني وزوجتي كأولادها.

وفي طريق العمر أجد نفسيآ  مع أم رابعة، وأنا في مقتبل العمر، ومع زوجة أخ آخر وهي الحاجة فوزية حيده، والتي أطلقنا عليها في العائلة باللغة العامية .. "أمّه زيه"، وظلت حتى أخر العمر تقول لي إبني حبيبي .

جميعهن رحلن إلى الدار الآخرة، إلا أن أمومتهن لم تذهب عني .. اللهم ارحمهن .. كما ربينني صغيرا، وقد جاءت الفرصة برحيل أخر أمهاتي لأكتب شيئا عنهن..

مقالات اخرى للكاتب

مؤشرات | ثقوب مميتة من حادث غاز الواحات والبنزين المغشوش